الأربعاء، 25 يوليو 2018

الأرملة المرضعة



الأرملة المرضعة للشاعر العراقي معروف الرصافي

يروى أن الشاعر معروف الرصافي

كان جالسًا ذات يوم مع صديقه التتنجي في دكانه الكائن أمام الجامع ببغداد

وبينما كان الرصافي يتجاذب أطراف الحديث مع صديقه التتنجي

إذ بامرأة محجبة يوحي منظرها العام بأنها فقيرة

فحالتها يرثى لها - شاحبة الوجه أصفر كَـالوَرْسِ مـن جـوع محياها (1)

والدموع تغمر عينيها حافية وعلى وجهها آثار التعب والجوع

وكانت تحمل صحنًا في يدها وفي اليد الاخرى تحمل طفل لها

وطلبت بالإشارة من التتنجي صاحب الدكان تطلبه بحديث جانبي على انفراد

وخرج إليها التتنجي صاحب الدكان وحدثها همسًا فأسرت اليه بحديث مضمونه

أن يعطيها بضعة قروش كثمن لصحن دفعته اليه وهي في حالة تردد وحياء

لكن صاحب الدكان التتنجي لم يرغب بشراء الصحن لزهده فيه

فما كان من المرأة الا أن عادت أدراجها تقصد بيتها حـيـث الـخطوب أثقلت من مـشيتها

هذا الحدث جعل الرصافي يرسم علامات استفهام كبيرة 

فاستفسر من صديقه التتنجي عن هذه المرأة فقال له التتنجي  
:
إنها أرملة تعيل يتيمين وهم الآن جياع وتريد أن ترهن الصحن الذي معها 

بأربعة قروش كي تشتري لأبنائها خبزًا

فموت زوجها أفجعها وأردى حالتها إلى هـذا البؤس والحاجة والفقر أوجعها 

والهم أنـحلها والغم أضناها

فما كان من الرصافي إلا أن لحق بها وأعطاها اثني عشر قرشًا كان كل ما يملكه 

والتي كانت في جيبه حينها

فأخذت السيدة الأرملة القروش وهي في حالة تردد وحياء وسلمت الصحن للرصافي وهي تقول:

الله يرضى عليك تفضل وخذ الصحن

فرفض الرصافي أخذ الصحن بدلا وعوضاً وغادرها عائدًا إلى دكان صديقه 

وقلبه يعتصر من الألم

فلما عاد الرصافي إلى بيته لم يستطع النوم ليلتها وراح يكتب هذه القصيدة

والدموع تنهمر من عينيه كما أوضح ذلك بقلمه

و فـي هذه القصيدة يصف الشاعر الرصافي هذه المرأة وتأثير موت زوجها عليها

الذي أردى حالتها إلـى هذا الـبؤس ويصف شعوره قـائلاً  

لَقِيتُها لَيْتَنِـي مَا كُنْتُ أَلْقَاهَـا *** تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَا

أَثْوَابُـهَا رَثَّةٌ والرِّجْلُ حَافِيَةٌ *** وَالدَّمْعُ تَذْرِفُهُ في الخَدِّ عَيْنَاهَا

بَكَتْ مِنَ الفَقْرِ فَاحْمَرَّتْ مَدَامِعُهَا *** وَاصْفَرَّ كَالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَا

مَاتَ الذي كَانَ يَحْمِيهَا وَيُسْعِدُهَا *** فَالدَّهْرُ مِنْ بَعْدِهِ بِالفَقْرِ أَشْقَاهَا

المَوْتُ أَفْجَعَهَا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَا *** وَالهَمُّ أَنْحَلَهَا وَالغَمُّ أَضْنَاهَا

فَمَنْظَرُ الحُزْنِ مَشْهُودٌ بِمَنْظَرِهَـا *** وَالبُؤْسُ مَرْآهُ مَقْرُونٌ بِمَرْآهَا

كَرُّ الجَدِيدَيْنِ قَدْ أَبْلَى عَبَاءَتَهَـا *** فَانْشَقَّ أَسْفَلُهَا وَانْشَقَّ أَعْلاَهَا

وَمَزَّقَ الدَّهْرُ ، وَيْلَ الدَّهْرِ، مِئْزَرَهَا *** حَتَّى بَدَا مِنْ شُقُوقِ الثَّوْبِ جَنْبَاهَا

تَمْشِي بِأَطْمَارِهَا وَالبَرْدُ يَلْسَعُهَا *** كَأَنَّهُ عَقْرَبٌ شَالَـتْ زُبَانَاهَا

حَتَّى غَدَا جِسْمُهَا بِالبَرْدِ مُرْتَجِفَاً *** كَالغُصْنِ في الرِّيحِ وَاصْطَكَّتْ ثَنَايَاهَا

تَمْشِي وَتَحْمِلُ بِاليُسْرَى وَلِيدَتَهَا *** حَمْلاً عَلَى الصَّدْرِ مَدْعُومَاً بِيُمْنَاهَا

قَدْ قَمَّطَتْهَا بِأَهْـدَامٍ مُمَزَّقَـةٍ *** في العَيْنِ مَنْشَرُهَا سَمْجٌ وَمَطْوَاهَا

مَا أَنْسَ لا أنْسَ أَنِّي كُنْتُ أَسْمَعُهَا *** تَشْكُو إِلَى رَبِّهَا أوْصَابَ دُنْيَاهَا

تَقُولُ يَا رَبِّ، لا تَتْرُكْ بِلاَ لَبَنٍ *** هَذِي الرَّضِيعَةَ وَارْحَمْنِي وَإيَاهَا

مَا تَصْنَعُ الأُمُّ في تَرْبِيبِ طِفْلَتِهَا *** إِنْ مَسَّهَا الضُّرُّ حَتَّى جَفَّ ثَدْيَاهَا

يَا رَبِّ مَا حِيلَتِي فِيهَا وَقَدْ ذَبُلَتْ *** كَزَهْرَةِ الرَّوْضِ فَقْدُ الغَيْثِ أَظْمَاهَا

مَا بَالُهَا وَهْيَ طُولَ اللَّيْلِ بَاكِيَةٌ *** وَالأُمُّ سَاهِرَةٌ تَبْكِي لِمَبْكَاهَا

يَكَادُ يَنْقَدُّ قَلْبِي حِينَ أَنْظُرُهَـا *** تَبْكِي وَتَفْتَحُ لِي مِنْ جُوعِهَا فَاهَا

وَيْلُمِّهَا طِفْلَـةً بَاتَـتْ مُرَوَّعَـةً *** وَبِتُّ مِنْ حَوْلِهَا في اللَّيْلِ أَرْعَاهَا

تَبْكِي لِتَشْكُوَ مِنْ دَاءٍ أَلَمَّ بِهَـا *** وَلَسْتُ أَفْهَمُ مِنْهَا كُنْهَ شَكْوَاهَا

قَدْ فَاتَهَا النُّطْقُ كَالعَجْمَاءِ، أَرْحَمُهَـا *** وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيَّ السُّقْمِ آذَاهَا

وَيْحَ ابْنَتِي إِنَّ رَيْبَ الدَّهْرِ رَوَّعَهـا *** بِالفَقْرِ وَاليُتْمِ ، آهَـاً مِنْهُمَا آهَا

كَانَتْ مُصِيبَتُهَا بِالفَقْرِ وَاحَـدَةً *** وَمَـوْتُ وَالِدِهَـا بِاليُتْمِ ثَنَّاهَـا

هَذَا الذي في طَرِيقِي كُنْتُ أَسْمَعُـهُ *** مِنْهَا فَأَثَّرَ في نَفْسِي وَأَشْجَاهَا

حَتَّى دَنَوْتُ إلَيْهَـا وَهْيَ مَاشِيَـةٌ *** وَأَدْمُعِي أَوْسَعَتْ في الخَدِّ مَجْرَاهَا

وَقُلْتُ : يَا أُخْتُ مَهْلاً إِنَّنِي رَجُلٌ *** أُشَارِكُ النَّاسَ طُرَّاً في بَلاَيَاهَا

سَمِعْتُ يَا أُخْتُ شَكْوَى تَهْمِسِينَ بِهَا *** في قَالَةٍ أَوْجَعَتْ قَلْبِي بِفَحْوَاهَا

هَلْ تَسْمَحُ الأُخْتُ لِي أَنِّي أُشَاطِرُهَا *** مَا في يَدِي الآنَ أَسْتَرْضِي بِـهِ اللهَ

ثُمَّ اجْتَذَبْتُ لَهَا مِنْ جَيْبِ مِلْحَفَتِي *** دَرَاهِمَاً كُنْـتُ أَسْتَبْقِي بَقَايَاهَا

وَقُلْتُ يَا أُخْتُ أَرْجُو مِنْكِ تَكْرِمَتِي *** بِأَخْذِهَـا دُونَ مَا مَنٍّ تَغَشَّاهَا

فَأَرْسَلَتْ نَظْرَةً رَعْشَـاءَ رَاجِفَـةً *** تَرْمِي السِّهَامَ وَقَلْبِي مِنْ رَمَايَاهَا

وَأَخْرَجَتْ زَفَرَاتٍ مِنْ جَوَانِحِهَـا *** كَالنَّارِ تَصْعَدُ مِنْ أَعْمَاقِ أَحْشَاهَا

وَأَجْهَشَتْ ثُمَّ قَالَتْ وَهْيَ بَاكِيَـةٌ *** وَاهَاً لِمِثْلِكَ مِنْ ذِي رِقَّةٍ وَاهَا

لَوْ عَمَّ في النَّاسِ حِسٌّ مِثْلُ حِسِّكَ لِي *** مَا تَاهَ في فَلَوَاتِ الفَقْرِ مَنْ تَاهَا

أَوْ كَانَ في النَّاسِ إِنْصَافٌ وَمَرْحَمَةٌ *** لَمْ تَشْكُ أَرْمَلَةٌ ضَنْكَاً بِدُنْيَاهَا

هَذِي حِكَايَةُ حَالٍ جِئْتُ أَذْكُرُهَا *** وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَى الأَحْرَارَ فَحْوَاهَا

أَوْلَى الأَنَامِ بِعَطْفِ النَّاسِ أَرْمَلَـةٌ *** وَأَشْرَفُ النَّاسِ مَنْ بِالمَالِ وَاسَاهَا





تعتبر قصيدة  (الأرملة  المرضعة) من روائع الشعر العربي

لأنها جسدت مأساة الفقر تجسيدًا صادقًا لدقة الوصف ورقة التعبير

وعن مشكلة اجتماعية استأثرت بموضوع الفقر والفقراء

فجاء التعبير من الشاعر عن المأساة تجسيدًا صادقًا لدقة ورقة التعبير

صاغها الشاعرالرصافي شعرا وأبدع


1- الورس : يزرع زرعا وهو نبات مبرقش لونه أحمـر عليه زغب أصفـر


orent
ابوعبدالعزيز






.